من بلاد فارس، يجيء البطل هذه المرة..
ومن بلاد فارس، عانق الاسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد، فجعل منهم أفذادا لا يلحقون في الايمان، وفي العلم.. في الدين، وفي الدنيا..
وانها لاحدى روائع الاسلام وعظمائه، ألا يدخل بلدا من بلاد الله اا ويثير في اعجاز باهر، كل نبوغها ويحرّ: كل طاقاتها، ويحرج خبء العبقرية المستكنّة في أهلها وذويها.. فاذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون.. والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسامون..
واذا بهم يبزغون من كل أفق، ويطلعون من كل بلد، حتى تزدحم عصور الاسلام الأولى بعبقريات هائلة في كل مجالات العقل، والارادة، والضمير.. أوطانهم شتى، ودينهم واحد..!!
ولقد تنبأ الرسول عليه السلام بهذا المد المبارك لدينه.. لا، بل وعد به وعد صدق من ربه الكبير العليم.. ولقد زوي له الزمان والمكان ذات يوم ورأى رأي العين راية الاسلام تخفق فوق مدائن الأرض، وقصور أربابها..
وكان سلمان الفارسي شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وثقى.
كان ذلك يوم الخندق. في السنة الخامسة للهجرة. اذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى..!
وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
وسقط في أيدي المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى:
(اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا).
أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه..
وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الاسلام خطرا عليها.
انها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح..
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..
وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر..
وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟؟
هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا.
تقدّم سلمان الفارسي وألأقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.
وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
والله يعلم ، ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرا وهي عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها..
ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل الى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..!!
**
خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية..
كان سلمان قوي البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا..!!
وذهب سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه